صامد

صامد

الجمعة، 8 أبريل 2016

اليوم الذكرى الـ 68لاستشهاد الشهيد القائد عبد القادر الحسيني

صامد للأنباء -


ذكرى استشهاد الشهيد القائد عبد القادر الحسيني (1908-1948م)
من رواد الكفاح الوطني المسلح.. شهيد القدس الحي
كان أول من أطلق النار إيذاناً ببدء الثورة على بطش المستعمر البريطاني في 6 أيار/مايو 1936م. وأمضى حياته مجاهداً باسلاً بقلمه وفكره وساعده، وآمن بأن الجهاد المسلح هو الطريق الوحيد للوصول إلى الحرية وتحرير فلسطين والقضاء على المشروع الصهيوني.
ولد شهيد معركة «القسطل» البطل المقدسي عبد القادر الحسيني أحد أبرز القادة العسكريين الفلسطينيين، والمتميز بوطنيته الصادقة والتزامه الإسلامي، في مدينة (استطنبول) في تركيا، يوم الثامن من شهر نيسان/أبريل 1908م.
توفيت والدته بعد مولده بعام ونصف فكفلته جدته لأمه، وما لبثت هي الأخرى أن فارقت الحياة ، فنشأ في كنف والده شيخ المجاهدين في فلسطين موسى كاظم بن سليم الحسيني، شغل بعض المناصب العالية في الدولة العثمانية متنقلاً في عمله بين أرجاء الدولة العثمانية، فعمل متصرفًا (مسئولاً) لنجْد، كما عمل في اليمن والعراق، وكان عضوًا بمجلس «المبعوثان العثماني» ـ المجلس النيابي ـ بـ(استطنبول) نفسها، بالإضافة إلى فلسطين.
ونظراً لخدمات موسى كاظم الحسيني الجليلة للدولة العثمانية، أنعمت عليه الحكومة بلقب (باشا)، وعندما انهارت الدولة العثمانية إبان الحرب العالمية الأولى، ووقعت فلسطين في قبضة بريطانيا كان موسى كاظم (باشا) يشغل منصب رئاسة بلدية القدس، كما تم انتخابه رئيساً للجنة التنفيذية للمؤتمر الوطني الفلسطيني.
كان الأب موسى أول من رفع صوته في وجه الانتداب البريطاني، وأول من دعا أهل فلسطين إلى الاحتجاج والتظاهر وإعلان السخط والغضب ضد وعد بلفور، فتولى قيادة أول مظاهرة شعبية في تاريخ فلسطين عام 1920م، وبسبب ذلك عزلته سلطات الانتداب البريطاني عن رئاسة بلدية القدس، فلم يكترث واستمر في نضاله الدؤوب، واشترك في الكثير من المظاهرات، كانت آخرها المظاهرة الكبيرة في يافا في السابع والعشرين من تشرين الأول/أكتوبر1933م، حيث أصيب فيها بضربات هراوات قاسية من قبل الجنود الإنجليز ظل بعدها طريح الفراش أياماً، حتى فارق الحياة سنة 1934م. ، وفي هذا الصدد يقول المؤرخ والمجاهد الفلسطيني الراحل محمد عزة دروزة (1887-1984م) في مذكراته:«إن إصاباته، في تلك التظاهرة، كانت لها علاقة بوفاته».
تربى الابن عبد القادر منذ نعومة أظفاره في بيت علم وجهاد، حيث كان هذا البيت بمثابة الحضن الأول له والذي كان يجتمع فيه رجالات العرب الذين يفدون إلى القدس، لأن والده موسى الحسيني كان رئيساً لبلديتها.
وقد أشرفت على تربيته جدته لأمه «نزهة بنت علي النقيب الحسيني»؛ وذلك لوفاة أمه بعد ميلاده بعام ونصف، وقد كان له أربعة من الإخوة (فؤاد وكان مزارعاً- رفيق وكان مهندساً- سامي وكان مدرساً- فريد وكان محامياً) وثلاثة من الأخوات.
وفي فترة الطفولة والصبا اشترك في المظاهرات الوطنية، واهتم بجمع الأسلحة والتدرب عليها منذ بلغ سن الثانية عشرة.
تلقى عبد القادر العلم في إحدى زوايا القدس، ثم أنهى دراسته الأولية في مدرسة (روضة المعارف الابتدائية) بالقدس، بعدها التحق بالمدرسة العصرية الوحيدة، وهي مدرسة «صهيون» الإنجليزية، والتي كانت تعتبر المدرسة الوحيدة في القدس التي من الممكن أن يتناول منها العربي زاده الحقيقي من المعرفة، ونال منها شهادة «المتريكوليشن» سنة 1927م. وأثناء فترة دراسته عكف على قراءة كتب التاريخ، وسير الأبطال والفاتحين. ـ نشير إلى أن كلمة «صهيون» هنا لا تمت للحركة الصهيونية بصلة.

الحسيني صحفياً وسياسياً وقائداً عسكرياً..
كانت حياة عبد القادر منذ نعومة أظفاره تنم على أنه ثائر شريف، لم يفكر في جاه أو مال، وكان همه الوحيد بعد أن قرأ تاريخ خيانة الحلفاء للثورة العربية الكبرى، ودرس تفاصيل مؤامرة «وعد بلفور» الذي توجته القوى الاستعمارية العظمى - ممثلة بعصبة الأمم في ذلك الوقت ـ بـ «صك الانتداب على فلسطين»... والتي عهدت إلى بريطانيا بتنفيذه، أن يجد طريقاً لخروج بلاده من هذا المأزق الحرج، فوجد الأبواب موصدة أمام شعبه، وتأكد له بأن المؤامرة على تهويد فلسطين أصبحت واضحة الرؤيا، خاصة بعد أن خطب وزير المستعمرات البريطاني في حفل صهيوني في لندن عام 1935م قائلاً: «إنني مسرور جداً إذ تحققت نبوءة (وايزمان)، ولو لم يعطَ وعد بلفور منذ ثمانية عشر عاماً، لأعطيناه اليوم».
التحق عبد القادر بعد أن أتم دراسته الثانوية بتفوق، بالجامعة الأمريكية ببيروت، ولنشاطه الوطني ورفضه لأساليب التبشير تم طرده من الجامعة، فالتحق بالجامعة الأمريكية بالقاهرة، حيث تخصص بدراسة الصحافة والتاريخ، ـ وذكرت مصادر أخرى أنه تخصص في الكيمياء.
وقد حرص عبد القادر في الجامعة الأمريكية في القاهرة على ألا يظهر نشاطه أو اعتراضه حتى يحصل على شهادته، وتخرج منها عام 1932م وفي حفل التخرج قال أمام الأساتذة وكبار الشخصيات الأمريكية ورجالات مصر: «أنه لا يشرف بشهادة من جامعة القوم الذين يباركون الصهيونية ويحمونها ولا يسعده أن يفرح بشهادة جامعة هي وكر لاستعمار وتبشير، وقاعدة لأعداء العرب». ثم رفع الشهادة التي سلمت له قبل هنيهة فمزقها أمام الجميع، وأعلن – وسط دهشة الجميع- «إن هذه الجامعة لعنة على هذا البلد بما تبثه من سموم وأفكار، وأنه سينادي الحكومة المصرية أن تعمل على إغلاقها».
وتذكر العديد من المصادر التاريخية أن عبد القادر استطاع أثناء سنوات دراسته التي قضاها في الجامعة، أن يكشف الدور المريب الذي تقوم به الجامعة الأمريكية في مصر، ذلك الدور المقنع بالعلم والمعرفة، والذي يحمل وراءه بعض أوبئة الاستعمار الخبيثة.
وكانت قد أعلنت الجامعة الأمريكية اثر ذلك سحب شهادة الطالب عبد القادر الحسيني، وعمت الفوضى، خاصة أن عبد القادر قد أسس رابطة للطلبة الفلسطينيين كان هو رئيسها. وحسماً للموقف تقدم عبد القادر وأعاد شهادة الجامعة إليها، وحاولت � والحركة الصهيونية أغلقت الجريدة، وتم تعليق عودتها على وقف مقالات عبد القادر الحسيني، فتركها عبد القادر من تلقاء نفسه وذلك بعد 6 أشهر فقط من بدء عمله بها.
ثم عمل محررًا في جريدة الجامعة العربية (كانت تصدر بالقدس، ورأس تحريرها منيف الحسيني)، واستمر يكتب بنفس الحماسة التي عرفت عنه، وسار على الجريدة ما كان على سابقتها.
وفي هذه الفترة انضم الحسيني إلى (الحزب العربي الفلسطيني) بالقدس، الذي كان يترأسه جمال الحسيني، وتولى فيما بعد منصب السكرتير في هذا الحزب، وساهم كمحرر في صحيفة «اللواء» لسان حال الحزب، غير أنه لم تكن ظروف هذه الجريدة بأفضل من سوابقها. وهنا بدأت تبرز نشاطات عبد القادر في الأفق الفلسطيني، مما أثار عليه حفيظة سلطات الانتداب، فأعادت عليه عرضها لشغل وظيفة (مأمور لتسوية الأراضي)، بهدف إشغاله في شؤون الأرض والزراعة، وإبعاده عن مجال السياسة.
وقد ارتضى عبد القادر هذه الوظيف�الجامعة منع نشر الخبر، ولكنه تقدم ببيان واضح لكافة الصحف المصرية، فكان الجزاء هو طرده بأمر حكومة إسماعيل صدقي من مصر. وعاد عبد القادر إلى القدس عام 1932م.
وفي قاهرة المعز التقى بالعديد من الشباب العربي وتوثقت صلته بهم، وتحول بيته إلى ناد نضالي، يناقش فيه مختلف القضايا القومية والدينية.
وبعد عودته للقدس، تلقفته السلطات البريطانية حين وصوله، ووضعت بين يديه عدة وظائف رفيعة المستوى وعليه انتقاء ما يلائمه منها ـ محاولة بذلك أن تضمه تحت جناحهاـ إلا أنه آثر العمل في مجال أكثر رحابة يستطيع به ومن خلاله أن يعبر عن آرائه، فالتحق بسلك الصحافة سكرتيراً لتحرير جريدة (الجامعة الإسلامية)، وكانت تصدر في مدينة يافا منذ عام 1925م، ورئيس تحريرها الشيخ سليمان التاجي الفاروقي، وكان الاتجاه الوطني الذي نهجته الجريدة من أهم العوامل التي دفعت عبد القادر للعمل بها.
ولقوة المقالات المعادية للمستعمر البريطان٩ بعد أن أيقن بأهميتها، خاصة أن هذه الإدارة خاصة بتسجيل أو نزع ملكية الأراضي في فلسطين، وفيها عرف كيف يتم تمهيد فلسطين لقيام (الدولة العبرية)؛ فنشر عدة مقالات في فلسطين والعراق وغيرها يشرح فيها المؤامرة البريطانية الصهيونية، ومن أهم أعماله أثناء وظيفته: قيامه بتحويل كثير من أراضي القرى إلى أوقاف إسلامية؛ حتى لا يتمكن اليهود من الاستيلاء عليها، كما أوقف العديد من الصفقات المشبوهة.
كما كان يهدف من عمله في هذه الدائرة إلى الاتصال بإخوانه المواطنين في القرى الفلسطينية المختلفة، وقد قضى عبد القادر عامين موظفاً في هذه الدائرة، تمكن خلالهما من إحباط العديد من المشاريع الصهيونية الرامية للاستيلاء على الأراضي، فشنت الصحافة الصهيونية عليه حملات شديدة، وطالبت الوكالة اليهودية بفصله من عمله، ومع بزوغ فجر الكفاح المسلح الفلسطيني سنة 1935م، ترك عبد القادر وظيفته في دائرة تسوية الأراضي، وبدأ عمله السري لتشكيل منظمات فلسطينية مسلحة، كان قوامه في أساسه من شبان القرى، حيث اتصل بأوسع القطاعات من أبناء القرى والعشائر، من الذين يمثلون القاعدة الارتكازية للثورة، فتعرف عليهم وانتقى منهم خيرهم فاستقطبهم، وشكل منهم خلايا سرية، وبث فيهم روح الحمية والجهاد، وجمع الأموال من موسريهم، واشترى أسلحة ومعدات، وخزنها في أماكن أمينة، وتدرب بعض الشباب على استعمالها.

الشهيد القائد عبدالقادر الحسيني
تشكيل «منظمة الجهاد القدس» وإعلان الجهاد
بعد أن تمادت بريطانيا في معاداتها للعرب، واستفحل الخطر اليهودي على فلسطين، وتنادى الشعب الفلسطيني بضرورة مواجهة المخططات الاستعمارية بصورة فعلية وعلنية... استقال عبد القادر من وظيفته الحكومية، ووهب الثورة جهده وشبابه.
فأخذ يشكل مع مجموعة من الشباب الوطني المتحمس تنظيماً سرياً عسكرياً، يهدف إلى مقاومة السلطات البريطانية، وتحطيم المشروع اليهودي الصهيوني، حيث تم ترتيب أمور هذا التنظيم في آذار/مارس 1934م، برئاسة عبد القادر الحسيني، وأطلق عليه بعد ذلك اسم «منظمة المقاومة والجهاد»، واتسع ليشمل مناطق مختلفة من فلسطين، غطّت 17 فرعاً في مدن فلسطين، ووصل عدد أعضائه إلى نحو 400 شخص، كما أوجد التنظيم سبعة مراكز سرية للتدريب. وقد اصطبغ هذا التنظيم بالصبغة الوطنية، وشارك في عضويته العديد من النصارى، كان من أبرزهم إميل الغوري، وحنا خلف.
ويذكر إميل الغوري (1922-1984م)، أن الحاج أمين الحسيني، كان يتابع هذا النشاط السري، دون أن يلاحظ أعضاء التنظيم ذلك، وفي صيف 1935م دعا الحاج أمين عبد القادر الحسيني وزملاءه المسؤولين، وطلب منهم توحيد جهودهم مع جهوده التنظيمية السرية التي كان يعدها هو أيضاً، ويضيف أنه نتيجة هذا التوحيد، تشكلت «منظمة الجهاد المقدس» برعاية الحاج أمين وتحت إشرافه.
ويضيف الغوري قائلاً: أنه لما تشكلت اللجنة العربية العليا لفلسطين في نيسان/إبريل 1936م برئاسة الحاج أمين، تبنت اللجنة «منظمة الجهاد المقدس»، فأصبحت بمثابة جهازها العسكري، حيث أسند الحاج أمين قيادتها لعبد القادر الحسيني.
وقد تولى عبد القادر الحسيني فعلياً قيادة منطقة القدس في أثناء الثورة الكبرى (1936 ـ 1939م). وفي بداية الثورة، اجتمع عبد القادر ونفر من إخوانه المجاهدين في منطقة القدس، حيث أدى الجميع الصلاة متضرعين إلى الله تعالى أن يأخذ بأيديهم وينصرهم على أعدائهم، مؤكدين أن هجرتهم خالصة لله سبحانه وتعالى، وعزمهم على ترك مدينة القدس والاعتصام بجبالها «لا تشرداً ولا بطراً، ولكن حباً لله وجهاداً في سبيله، ونصرة للدين وذوداً عن الوطن، ودفاعاً عن الحرمات. والأعراض والحريات والمقدسات».
وقد اتخذ القائد المقدسي ولأسباب عديدة بلدة (بير زيت) مقراً لقيادته العسكرية ، كما قسم فلسطين إلى مناطق قتالية، وولى على كل منطقة منها قائداً من قادته، أما الخلايا السرية وقياداتها فظلت تابعة له مباشرة.
وفي نيسان/أبريل سنة 1936م، أعلن الإضراب العام في فلسطين، احتجاجاً على السياسة الأنكلو- صهيونية، وفي هذا السياق يذكر المفكر الشهيد عبد الوهاب الكيالي (1939-1981م)، في كتابه (تاريخ فلسطين الحديث)، أن عبد القادر ساهم بقسط كبير في إنجاح الإضراب الطويل الذي استمر زهاء ستة أشهر بكاملها، إلا أن هذا الشكل من الكفاح خبا وتلاشى في الأسبوع الأخير من أيار/ مايو سنة 1936م، ليحل الكفاح المسلح بديلاً عنه، وقد كان عبد القادر أول من أطلق النار إيذاناً ببدء الثورة على بطش المستعمر في 6 أيار/مايو 1936م، حين هاجم ثكنة بريطانية (ببيت سوريك) شمالي غربي القدس، ثم انتقل من هناك إلى منطقة «القسطل»، بينما تحركت خلايا الثورة في كل مكان من فلسطين حيث انضم إليهم أفراد المنظمات السرية التي كان قد شكلها بمعرفة اللجنة التنفيذية، وتم تشكيل الأجنحة العسكرية، وأعلنت الثورة في التاسع والعشرين من أيار/ مايو سنة 1936م، وأطلق على قواتها اسم «الجهاد المقدس»، وكان أبرز قادتها الشهداء: عبد الرحيم الحاج محمد، حسن سلامة، يوسف أبو درة وعبد القادر الحسيني، وبهذا شكلت حركة عبد القادر الحسيني الشرارة التي امتد لهيبها إلى سائر أنحاء فلسطين، فانضم إلى مجموعاته في الجبل، آلاف القرويين الوطنيين، وكان يشارك بنفسه في قيادة المعارك العسكرية، وقد برز دوره في المعارك التالية:(باب الواد، عين كارم، حلحول، بيت سوريك، عرتوف، بني نعيم وبيت جالا)....
وفي تموز/يوليو1936م بلغت الثورة الفلسطينية أوج قوتها ، حيث انضم إليها من بقي من رفاق الشهيد عز الدين القسام، وبلغت أنباؤها العالم العربي كله.
وقد قام عبد القادر بنفسه بإلقاء قنبلة في عام 1936م على منزل سكرتير عام حكومة فلسطين، والثانية على المندوب السامي البريطاني، ثم اغتيال الميجور «سيكرست» مدير بوليس القدس ومساعده وبدأت أعمال الوحدات الفلسطينية في عام 1936م، فهاجموا القطارات الإنجليزية وقطعوا خطوط الهاتف والبرق.
ويذكر المرحوم أكرم زعيتر (1909– 1996م) في كتابه (وثائق الحركة الوطنية الفلسطينية) أنه «مع احتدام المعارك وتصاعد حدة الكفاح المسلح الفلسطيني ضد الصهاينة والانتداب البريطاني، انضم إلى صفوف الثورة الفلسطينية متطوعون عرب، كان من أبرزهم القائد السوري ابن مدينة حماة الشهيد سعيد العاص (1889-1936م) الذي استشهد في معركة (حوسان ـ الخضر) التي وقعت في 4 تشرين الأول/أكتوبر سنة 1936م، وقد دارت هذه المعركة على طريق الخليل-القدس، بين قوات الثورة الفلسطينية وقوات الاستعمار البريطاني، وجرح فيها عبد القادر الحسيني جروحاً بليغة، مكنت القوات البريطانية من أسره، ونقله مكبلاً بالأغلال إلى المستشفى الحكومي بالقدس، واستمرت الثورة بعد ذلك، حتى الثاني عشر من تشرين الأول/ أكتوبر سنة 1936م، حيث تم إيقاف نشاطها العسكري، تلبية لنداء الحكام».
لكن الحسيني نجح في الفرار من المستشفى العسكري في القدس، بعد مغامرة رائعة قام بها المجاهدون من رفاقه فهاجموا القوة البريطانية التي تحرس المستشفى وأنقذوه وحملوه إلى دمشق حيث أكمل علاجه.
وعاد إلى فلسطين بعد استئناف الثورة المسلحة في الخامس عشر من تشرين الأول /أكتوبر سنة 1937م، وذلك إثر صدور التوصية البريطانية بتقسيم فلسطين، وفقاً لتقرير اللجنة الملكية البريطانية، وقد تولى قيادة الثوار في منطقة القدس، وقاد هجومات عديدة ناجحة ضد البريطانيين والصهاينة، وكان من أهم المعارك التي خاضتها فصائله، «معركة عرتوف الكبرى» في 14 تشرين الأول/أكتوبر 1937م، كما نجح في القضاء على فتنة دينية كان المستعمر البريطاني يسعى إلى تحقيقها ليوقع بين مسلمي فلسطين ومسيحيها.
ومع بداية الحرب العالمية الثانية، نقل عبد القادر عملياته إلى جنوب منطقة الخليل، فحاولت السلطات الانتدابية البريطانية القضاء عليه، فقام الجيش البريطاني في 4 تشرين الأول/أكتوبر 1938م بحشد قوات عسكرية ضخمة، معززة بالدبابات والطائرات، وطوق قرية «بني نعيم الكبرى»، ووقعت معركة ضارية سقط فيها الكثير من الشهداء، وأصيب عبد القادر مرة أخرى بجروح بليغة، وفي خريف عام 1938م، جُرح عبد القادر ثانية في إحدى المعارك، فأسعفه رفاقه في المستشفى الإنجليزي في الخليل، ثم نقلوه خفية إلى سورية، فلبنان. ومن هناك نجح في الوصول إلى العراق بجواز سفر عراقي يحمل اسم (محمد عبد اللطيف).
وفي بغداد عمل عبد القادر مدرساً للرياضيات في المدرسة العسكرية في معسكر الرشيد، وفي إحدى المدارس المتوسطة، ثم التحق بدورة لضباط الاحتياط في الكلية العسكرية.

أسهامه في ثورة الكيلاني..
في أيار/ مايو سنة 1941م، وقعت الحرب العراقية البريطانية، فأيد عبد القادر ثورة رشيد عالي الكيلاني في العراق، وشارك مع رفاقه في قتال القوات البريطانية،حيث شكل الفلسطينيون قوة عسكرية كان عبد القادر أحد قادتها وأخذت هذه القوة مواقعها في جبهة صدر أبي غريب، ولم تنسحب منها إلا بعد انتهاء القتال العراقي-البريطاني، حيث ألقت القوات البريطانية في العراق القبض على عبد القادر، ومَثُل أمام المحكمة العسكرية البريطانية، بتهمة التعرض لزحف الجيش البريطاني، وصدر عليه الحكم بالسجن، وتحت ضغط الرأي العام العراقي والرموز الوطنية العراقية، استُبدل السجن بالنفي عشرين شهراً إلى بلدة زاخو في أقصى شمال العراق.
كما مثُلت أمام المحكمة السيدة (وجيهة الحسيني) زوجة عبد القادر بحجة مساعدتها وإيوائها للثوار، وتحريضهم على القتال، وحكم عليها بالإقامة الجبرية في بيتها ببغداد مدة عشرين شهراً.
وعلى أثر اغتيال فخري النشاشيبي في شارع الرشيد ببغداد، اتُهم عبد القادر بتدبير خطة الاغتيال هذه، فبقي موقوفاً في بغداد قرابة السنة بهذه التهمة .. ثم نقل إلى معتقل العمارة، وهناك أمضى ما يقرب من سنة أخرى، حيث أفرجت الحكومة العراقية عنه في أواخر سنة 1943م، بعد أن تدخل الملك عبد العزيز آل سعود ملك العربية السعودية. فتوجه إلى السعودية وأمضى فيها عامين بمرافقة أسرته، في ضيافة الملك معززاً مكرماً.
وفي مطلع عام 1944م تسلل عبد القادر من السعودية إلى ألمانيا، حيث تلقى دورة تدريب على صنع المتفجرات وتركيبها، ثم انتقل وأسرته في 1/1/1946م إلى القاهرة وهناك وبسبب نشاطه السياسي وصلاته بعناصر من حزب «مصر الفتاة» وجماعة الإخوان المسلمين، وتجميعه الأسلحة، أمرت حكومة السعديين المصرية بإبعاده.. لكن الضغوط التي مارستها القوى الإسلامية المصرية حالت دون تنفيذ ذلك الإبعاد.
وفي مصر تمكن عبد القادر من وضع خطة إعداد المقاومة الفلسطينية ضدّ الدولة الصهيونية المرتقبة. ووضع خطة لتنظيم عمليات تدريب وتسليح وإمداد المقاومة الفلسطينية. وأنشأ لهذا الغرض معسكراً سرياً (بالتعاون مع قوى وطنية مصرية وليبية) على الحدود المصرية الليبية لإعداد المقاتلين.
ودرّب إلى جانب المقاتلين الفلسطينيين، مقاتلين مصريين على صنع المتفجرات وعلى القيام بأعمال قتالية (وهم المقاتلون الذين شاركوا في حملة المتطوعين في حرب فلسطين، وفي حرب القناة ضد بريطانيا بعد ذلك).
وما أن علمت الهيئة العربية العليا نية الأمم المتحدة تقسيم فلسطين، سارعت الهيئة برئاسة المفتي الحسيني إلى الانعقاد، وقررت مواجهة الخطط الاستعمارية الصهيونية بالقوة المسلحة، وتقرر إنشاء جيش فلسطين لممارسة الجهاد الفعلي، واختير المفتي قائداً أعلى لهذا الجيش وأعاد تجهيز «منظمة الجهاد المقدس»، ثم حولها إلى جيش الجهاد المقدس الفلسطيني. وأسند قيادته العامة إلى عبد القادر الحسيني، بالإضافة لمهمة الدفاع عن القدس ورام الله وباب الواد.
وكان هذا الجيش يمثل «الجيش الفلسطيني» الذي وضعت القيادة الوطنية الفلسطينية ثقلها فيه. وكان يتكون من ( 5 . 7) آلاف مقاتل، تساندهم فئة أخرى من المقاتلين المقيمين في قراهم والذين يستدعون عند الحاجة، ويبلغ مجموعهم نحو عشرة آلاف.
وعندما أصدرت الأمم المتحدة قرارها القاضي بتقسيم فلسطين في 29 تشرين الثاني/نوفمبر1947م، وقد هب الشعب الفلسطيني بمدنه وقراه بأعنف تظاهرات شهدتها فلسطين حتى ذلك الحين، ووقعت صدامات دموية بين العرب من جهة، والصهيونية والقوات البريطانية من جهة أخرى، وفي تلك الأحداث، خرجت المنظمات الصهيونية بأسلحتها ومعداتها العسكرية، وقامت بشن هجمات على القرى الفلسطينية التي كانت جماهيرها عزلاء من السلاح. وفي هذه الفترة تسلل عبد القادر إلى فلسطين سراً مع بعض رفاقه، وفي نفس الوقت اجتاز الحدود الفلسطينية عدد من المجاهدين القادمين من سورية ولبنان، والتقوا جميعاً بعبد القادر، وأخذوا يرسمون خطة جديدة للبدء في المرحلة القادمة من الجهاد. فأعادوا تشكيل قوات «الجهاد المقدس»، واتخذت بلدة (بير زيت) مقراً رئيسياً لتلك القوات، وتألفت في حيفا والناصرة وجنين وغزة قوات أخرى تابعة لها.
واستعداداً للجولة العربية الصهيونية الأولى أنشئ عبد القادر معملاً لإعداد المتفجرات، ومعسكراً تدريب مجموعات فلسطينية، وعمل على إقامة محطة إذاعة لتتولى إذاعة البيانات الصادرة عن المقاومة الفلسطينية وحث المجاهدين في منطقة رام الله.
ثم أقام محطة لاسلكية في مقر القيادة ببلدة (بير زيت)، وعمل شفرة اتصال حتى لا يتعرف الأعداء على مضمون المراسلات ونظم فريق مخابرات لجمع المعلومات عن العدو وفريق آخر لردع عمليات القتل اليهودية.
وتعد هذه القوات طليعة العمل النضالي العربي التي انبثقت تنظيماتها من صميم الشعب الفلسطيني، وكانت في الحقيقة أول مظهر من مظاهر القوات الشعبية التي تحمل في جوهرها صفة الجيش الشعبي في بلد كان يرزح تحت نير الاستعمار البريطاني.
ولكن رغم حماسة أفراد «الجهاد المقدس» وتضحياتهم، إلَّا أنَّ هذا الجيش كان ضعيف التسليح والتدريب قياساً بإمكانات القوات اليهودية الصهيونية. وأسهمت خلافات الأنظمة العربية مع «الهيئة العربية العليا» في عدم تحويل الكثير من الأسلحة والأموال التي كان يتم التبرع بها إلى هذا الجيش، والذي كان بأمس الحاجة إليها

القسطل .. معركة القدس الحاسمة
توزعت قوات جيش «الجهاد المقدس» على مختلف مناطق فلسطين، وقامت قوات الحسيني بتنفيذ جزء كبير من واجباتها، فقد تمكنت من إجبار (115) ألف يهودي على الاستسلام في مدينة القدس نتيجة حصارهم باحتلال مضيق باب الواد وإقفاله، وشملت المعارك كافة القرى والمدن الفلسطينية، وكان أشهرها: معارك (جوليس، والنبي داود، وأبو شريتح، ومجد الكروم، والكابري، والبروة، وبيت سوريك، والماصيون، وميكور حاييم، وعرب البعيج، وطبرية، ولوبية، وشعب، والكويكات، والبروة، ومجدل الكروم، وصفورية، وعكا، وحيفا، وعزون، والطيرة، وطولكرم، ونابلس، وجنين، وسيلة الظهر،و حوارة، وبيت لحم، والخليل، وأريحا، وشعفاط، وحلحول، والدهيشة، وصوريف، ويافا، واللد، والرملة، ودير محيسن، والعباسية، ودير طريف، وسلمة، ووادي العرار، وغزة، وبير السبع، والفالوجة، وخان يونس، والمجدل، والمسمية، والسواتر، وبيت دراس والمنصورة)، وقد قابلت الحركة الصهيونية هذه المعارك بأعمال انتقامية، فأقدمت على تفجير ألغام وعبوات موقوتة في المناطق الآهلة بالسكان، عند ذلك دعا عبد القادر إلى مؤتمر صحفي في مقر قيادته، حضره مندوبو وكالات الأنباء، ومراسلو الصحف، وأعلن عبد القادر فيه أنه يتحدى القوات الصهيونية في ميادين القتال، وحذر من مغبة استمرار الحركة الصهيونية في العمليات الإرهابية، لكن ذلك لم يردع القوات الصهيونية عن الاستمرار في ارتكابها أبشع الجرائم الإنسانية والقتل والتخريب، مما اضطر عبد القادر للرد على هذه العمليات الإرهابية الصهيونية، بتشكيل قوى خاصة أوكل إليها مهمات النسف والتدمير، ضد المراكز الصهيونية، وقامت هذه الفرقة فعلاً بسلسلة واسعة من أعمال النسف، فنسفت مبنى الصحف الصهيونية في القدس، وفجرت شارع بن يهودا في القدس حيث أصيب أكثر من ألفي يهودي بين قتيل وجريح ، وشارع هاسوليل في القدس الجديدة مما أدى إلى قتل وجرح المئات، وحي منتنفيوري، ومبنى الوكالة اليهودية، كما نسفت قواعد صهيونية في حيفا، ويافا، ولقد أسهم ذلك في ردع الوكالة اليهودية عن التفكير بعمليات إرهابية جديدة.
كما خاضت هذه القوات بقيادة عبد القادر أروع ملاحم البطولة والفداء، وشهدت فلسطين في تلك الفترة، حالة من النهوض الثوري العارم، وتمكن الثوار في شهر آذار/ مارس سنة 1948م، من السيطرة على طرق مواصلات رئيسية في فلسطين، ومحاصرة مدينة القدس الجديدة، واحتلال قسم من تل أبيب، ومحاصرة عدة مستعمرات صهيونية، وقد وصف الكتاب السنوي لدولة (إسرائيل)، الصادر سنة 1949م، تلك الفترة بما يلي: «إن شهر آذار/مارس سنة 1948م، كان أحلك شهر عرفه اليهود، ورأوا فيه خطراً عظيماً يهدد بتدمير كل ما بنوه خلال ثلاثين عاماً»، بيد أن هذا الخطر سرعان ما عالجته الولايات المتحدة الأميركية، إذ طلبت في التاسع عشر من آذار/مارس سنة 1948م، عبر مندوبها في الأمم المتحدة، العدول عن قرار تقسيم فلسطين، ووضعها تحت وصاية الأمم المتحدة، ريثما تجد هذه الهيئة الحل المناسب لها، وسرعان ما لاقى هذا الاقتراح تأييد دول أوروبا الغربية، وفاز في اقتراع الأمم المتحدة، ولم يكن خافياً أن الهدف من ورائه هو إعطاء فرصة جديدة للحركة الصهيونية، لإعادة ترتيب أوضاعها مجدداً داخل فلسطين، وبالفعل، تمكنت الحركة الصهيونية من استيراد الأسلحة عن طريق ميناء تل-أبيب، وعن طريق الجسر الجوي الذي أقامته تشيكوسلوفاكيا آنذاك لنقل المتطوعين وشحنات السلاح إلى المنظمات الصهيونية في فلسطين، مما أخل مجدداً بميزان القوى العسكري داخل فلسطين لمصلحة الحركة الصهيونية.
وفي كتابه (النكبة) يذكر المؤرخ المقدسي عارف العارف أن عبد القادر أدرك ذلك في حينه، فذهب إلى دمشق - حيث القيادة العربية لمنطقة القدس- مطالباً اللجنة العسكرية العربية بالسلاح، إلا أن طلبه رفض، فقدم استقالته من قيادة قوات (الجهاد المقدس)، إلى الحاج محمد أمين الحسيني الذي رفض طلبه، وتدخل الزعيم اللبناني رياض الصلح والمسؤول المصري عبد الرحمن عزام - الأمين العام لجامعة الدول العربية وقتها - في الأمر، وأقنعا عبد القادر بسحب استقالته مقابل إمداد قواته بالسلاح عن طريق اللجنة العسكرية العربية، لكن هذه اللجنة لم تمده بشيء مما طلب، وقد ترافق ذلك مع تمكن القوات الصهيونية من احتلال «القسطل» فقرر عبد القادر العودة إلى فلسطين، وغادر دمشق في السادس من نيسان/ أبريل سنة 1948م، بعد أن أعرب عن رأيه في اللجنة العسكرية العربية، وهو أن التواطؤ العربي الرسمي مع الانتداب والصهيونية سيكون سبب نكبة فلسطين.
وتؤكد المصادر التاريخية أن عبد القادر «طالب أعضاء اللجنة العسكرية –آنذاك- بالسلاح والرجال، فرفضوا، فأراد السلاح فقط، فرفضوا، فأراد الذخيرة فقط فرفضوا ولم يرجع إلا ببضع بنادق وثمانمائة جنيه فلسطيني، هي كل ما استطاع الحاج أمين الحسيني بشخصه تدبيره له».
وتكشف الرسالة المقتضبة التي وجهها في السادس من نيسان/أبريل 1948م (أي قبل استشهاده بيومين)، إلى عبد الرحمن عزام مدى معرفته بالوضع الصعب على الأرض، ومدى إحساسه بخذلان القيادات العربية لشعب فلسطين رغم استبساله في المواجهة:
«إني أحملكم المسؤولية بعد أن تركتم جنودي
في أوج انتصاراتهم بدون عون أو سلاح».
وقد بعث عبد القادر بهذه الرسالة، لتبرئة ذمته أمام الأمة، إذ لم يكن يوماً من المراهنين على القيادات والأنظمة العربية التي كان يعرف حجم عجزها وارتباطها بالسياسة البريطانية المهيمنة على البلاد العربية حينذاك.
ومما لاشك فيه أن عبد القادر الحسيني ضرب خلال معركة «القسطل» غير المتكافئة مثلاً رائعاً في التضحية والحماسة والاندفاع، ذلك أنه رغم تخاذل الجيوش العربية، وفي ظل موازين قوى مختلة لمصلحة الحركة الصهيونية، فقد تكللت جميع المعارك التي خاضها الثوار ضد العدو الصهيوني والبريطاني بالنجاح، إلى أن كانت معركة «القسطل» التي دامت أربعة أيام بكاملها (4 - 8 نيسان/أبريل 1948م)، وتفاصيل المعركة تدور كما دوّنها المؤرّخون، أنه في يوم السابع من نسيان/أبريل عمد عبد القادر أولاً إلى إعادة ترتيب صفوف المجاهدين بدقّة ونظام وكان هو في موقع القيادة، وعلى الرغم من استبسال كلّ الجهات المقاومة في القتال إلا أنّ ضعف الذخيرة وقلّتها أدّت إلى وقوع الكثير من المجاهدين بين مصابٍ وشهيد، وهنا اندفع عبد القادر الحسيني لتنفيذ الموقف وقام باقتحام قرية «القسطل» مع عددٍ من المجاهدين إلا أنّه ما لبث أنْ وقع ومجاهدوه في طوق الصهاينة، وتحت وطأة نيرانهم، فهبّت نجدات كبيرة إلى «القسطل» لإنقاذ الحسيني ورفاقه وكان من بينها حراس الحرم القدسي الشريف، وتمكّن رشيد عريقات في ساعات الظهيرة من السيطرة على الموقف وأمرَ باقتحام القرية وبعد ثلاث ساعات تمكّنوا من الهجوم وطرد الصهاينة منها ومن ثمّ فر من تبقّى منهم بسيارات مصفحة إلى طريق يافا، غير أنّ المقاومين لم يكتفوا بذلك وأرادوا ملاحقة جموع الصهاينة الفارين غير أنّهم وجدوا في صبيحة يوم (8 نيسان/أبريل 1948م) جثمان الشهيد عبد القادر الحسيني ملقى على الأرض الأمر الذي كان له وقْعٌ أليم جداً على رفاقه وعلى الأمة جميعها إذْ زلزل النبأ قلوب كلّ من عرفوه وعايشوه..
وفي رواية تفصيلية يحدثنا شيخ المجاهدين الفلسطينيين المناضل بهجت أبو غربية – أمد الله في عمره – في مذكراته التي حملت عنوان (في خضم النضال)- ص210-عن الساعات الأخيرة من معركة «القسطل» قائلاَ : «.. أصبح عبد القادر في حكم المفقود أو المحاصر داخل القرية. فأصيب المقاتلون بالإحباط، فهم لا يستطيعون إعادة الكرّة في النهار والهجوم على القرية من جديد، وذخائرهم قليلة. وأخيراً قرّروا أنْ يرسلوا في طلب نجداتٍ من كلّ مكان لإنقاذ عبد القادر المحاصر داخل «القسطل». فتوجّهت الرسل على جناح السرعة إلى القدس ورام الله والخليل والرملة وجميع القرى القريبة، تستنهض همم المقاتلين. فسارعت النجدات في التوجّه إلى «القسطل». وأصبح مجموع المناضلين يزيد على خمسمائة رجل.
وفي صباح الخميس 8 نيسان/أبريل 1948م جاء من يستصرخني لنجدة القائد عبد القادر الحسينيّ (المحاصر في «القسطل») فهالني الأمر وتحرّكت بسرعة، فأصدرت إلى قواتي في المصرارة وسعد وسعيد أمراً باتّخاذ أعلى درجات الاستعداد وعدم مغادرة موقعهم تحت أيّ ظرف. كما أصدرت أمراً إلى قواتي في حيّ باب الساهرة بالتجمّع، وانتخبت منهم نحو 30 رجلاً من خيرة المقاتلين، وأعددت من السلاح رشاشيْن براوننغ وأربعة رشاشات برن لتحملها القوات المتحرّكة من مجموعة باب الساهرة ومجموعة المصرارة. وقبل أنْ نتحرّك حضر إليّ الدكتور مهدي الحسينيّ وزوجته وممرّض يعمل في عيادته، وثلاثتهم بالألبسة البيضاء يحملون أدوات الإسعاف وشارة الهلال الأحمر، وطلبوا منّي أنْ يرافقونا إلى «القسطل»، فأكبرت ذلك ووافقت بكلّ سرور.
ركبت وقواتي في المصفّحة اليهوديّة التي أخذتها من كامل عريقات وفي سيّارة شحنٍ كبيرة... وواصلنا السير إلى بيت سوريك القريبة جدّاً من قرية «القسطل». ولكنّ الطريق منها إلى «القسطل» وطولها كيلومتر ونصف كيلومتر تقريباً لا تصلح للسيّارات. ترجّلنا من السيّارات واجتمع من حولنا عددٌ من سكّان القرية، وما كانوا يعرفون أنّنا ننوي التقدّم إلى «القسطل» حتّى جاء رجلٌ يصيح ويستصرخ الرجال لنجدة قرية النبي صموئيل التي قال إنّ اليهود هاجموها بعد أنْ هاجموا قرية بيت أكسا.
وترجّلنا من السيّارات وبدأنا بالتقدّم إلى «القسطل» بالرغم من تحذير أهالي بيت سوريك لنا بشدّة خوفاً علينا من المواقع اليهوديّة المسيطرة على طريق تقدّمنا التي تحمي مؤخّرة اليهود في «القسطل»، فلم أعبأ بذلك. وتقدّمنا بانتظام معتمدين على كثافة نيراننا. ونجحت الخطّة، فقد كان قدومنا من شمال «القسطل» بهذه النيران الكثيفة مفاجئة للعدو، حيث مئات المناضلين في الوقت نفسه كانوا يهاجمون «القسطل» في الجنوب، ونحن من الشمال ونضرب مستعمرة «موتسا« ومستعمرة «الدلب«، ونقطع إمدادات اليهود من الشرق والغرب. فتملّكهم الرعب وتركوا مواقعهم في القمّة منسحبين إلى الغرب من خلال حرجٍ مكشوف لنيراننا، فأصليناهم ناراً حامية وسقط منهم العديد من القتلى، ودخلنا «القسطل» من الشمال الغربيّ، أي من ناحية الحرج، وشاهدنا أعداداً كبيرة من القتلى. وفي احد المواقع كانت هناك 11 جثّة متقاربة وجريح واحد أسرع الدكتور مهدي والممرّض لإسعافه، لكنّه لم يلبثْ أن فارق الحياة. ووصلنا إلى القمّة حيث التقينا المناضلين القادمين من الجنوب، والتقيت صديقي محمد عادل النجار ورجاله من مناضلي حيّ وادي الجوز، وتملّكتنا فرحة عارمة، فـ«القسطل» عادت لنا وخسائرنا قليلة وجثث الأعداء متناثرة هنا وهناك.
لكن فرحتنا لم تدمْ طويلاً، إذ جاء من يخبرنا أنّ عبد القادر وُجِد شهيداً في الجهة الجنوبيّة الشرقيّة من القرية أمام بيتٍ لا يبعد عن بيت المختار أكثر من 100 متر. ووقع عليّ الخبر وقْع الصاعقة، فجلست على الأرض حزيناً وطلبت من رجالي ألا يذهبوا ويشاهدوا جثّة قائدهم حرصاً على روحهم المعنويّة وأنْ يبقوا متجمّعين حولي. وبقيت في مكاني جالساً على الأرض وبجانبي محمد عادل النجار، وقد غمرني الحزن والأسى الشديدان وتراءت لي صورة المستقبل شديد الظلام. فخسارتنا مضاعفة بهذا البطل المغوار الذي أمضى حياته مجاهداً باسلاً مطارداً، وختم حياته مستشهداً ببطولةٍ وشهامة في سبيل الحفاظ على أرض الوطن المقدّس. خسارتنا في شخصه عظيمة، وخسارتنا في دوره النضاليّ القياديّ فادحة، فقد كان القطب الذي يلتقي عند قيادته مناضلو جيش الجهاد المقدّس ومناضلو فلسطين بشكلٍ عام. رحمك الله أيّها البطل، فخسارتنا فيك لا تعوّض، لقد بكينا فلسطين حين بكيناك في «القسطل». قلتها لي يوماً: (فليمرّوا على أجسادنا). وها أنت تفي بنذرك. فلم يمرّوا «القسطل» إلى على جسدك...».
وفي يوم الجمعة المصادف (9 نيسان/أبريل 1948م) شيعت فلسطين ابنها البار عبد القادر الحسيني بجنازة مهيبة أمّها الجميع صغاراً وكباراً مقاومين وأناساً آخرين عرفوه إنساناً وطنياً مخلصاً لدينه ووطنه.. وصلي عليه في المسجد الأقصى المبارك، وأطلقت المدافع في القدس تحية للبطل الشهيد، ودفن بجانب ضريح والده في باب الحديد... وسمي «بطل القسطل»، ونعاه المؤذنون على المآذن وقرعت أجراس المعابد حزنا عليه، وأقيمت صلاة الغائب في الجامع الأزهر وفي جوامع المدن العربية، وجعل خطباء صلاة الجمعة استشهاده الشريف موضوع خطبة الجمعة، وابنه النواب والعاملون في الحقل الوطني في المجالس النيابية في مصر وسورية ولبنان والعراق وفي جامعة الدول العربية.
وقد استشهد رحمه الله وهو في الأربعين من عمره، أي في أوج عطائه الجهادي.
وفي هذه الأثناء استغلت عصابات الكيان الصهيوني الإرهابية انشغال الجميع بتشييع عبد القادر الحسيني فارتكبت أبشع المجازر، وعمدت إلى مهاجمة قرية «دير ياسين» فلم يبقَ فيها شيءٌ ينبض بالحياة، بعد أن ذبح اليهود أطفالها ونسائها وشيوخها وشبابها، فقط ركام المنازل وأشلاء المدنيين الفلسطينيين العزل.
ويذكر أن الشهيد عبد القادر تزوج في عام 1935م من السيدة وجيهة الحسيني، ورزق منها بفتاة واحدة وثلاثة ذكور هم موسى وغازي وثالثهم القيادي الراحل فيصل الحسيني الذي ولد في القدس في 17 تموز/يوليو 1940م، وتوفي في الكويت في 31 أيار/مايو 2001م ؛ وحُمل جثمانه إلى مدينة القدس، وشيعه إلى مثواه الأخير أبناء القدس في جنازة مهيبة؛ حيث دُفن في باحة الحرم القدسي الشريف بجوار أبيه وجده. وكانت المرة الأولى التي يُدفن فيها فلسطيني في هذا المكان منذ احتلال الكيان الصهيوني لمدينة القدس عام 1967م.

نموذج من نثر القائد الشهيد عبد القادر الحسيني:
[[اكتب إليكَ من دمشق، ولا ادري كيف أصف شعوري وما يجول في نفسي، وما يخفق في فؤادي. وهذه فترة قصيرة أنا بعيد فيها عن مشاغل القتال، وما ذلك رغبة مني، ولكن الظروف هي التي أوجدتني في دمشق، بعيداً عن رائحة البارود وعبير الجنة وخوض المعارك إلى جانب إخواني الأبطال الذين يقومون بتحرير وطنهم. نصرهم الله وأيدهم بقوة من عنده.
لقد كانت الفترة الماضية مليئة بالانتصارات الباهرة والأعمال المجيدة التي بهرت العالم وحطمت العدو. لقد سطرنا صفحات مجد لا تنسى في التاريخ. ولكن هذا لم يأت عفواً ولا سهلاً، وإنما بالتضحيات العظيمة والجهود المتواصلة ليلاً ونهاراً، وهو عمل نسي كل منا نفسه وأهله وأولاده وطعامه ونومه وكل ما في الدنيا إلا الرغبة في النصر وسحق العدو الكبير في عدده والقوي في عتاده بما لدينا من السلاح القليل، ولقد قدَّرنا الله على ذلك وكافَّانا على جدّنا بالنصر المبين، لكننا ما زلنا في أول الطريق، وعلينا أن نضاعف الجهود ونصل الليل بالنهار حتى نصل إلى النصر النهائي، واني أبشرك من الآن أننا سنصل إليه إن شاء الله]].
[هذه الرسالة وجهها الشهيد عبد القادر الحسيني من دمشق بتاريخ 14 ربيع أول 1365م إلى سماحة الحاج أمين الحسيني رئيس الهيئة العربية العليا أبان وجوده في مصر].

بقلم أوس داوود يعقوب /خاص مؤسسة القدس للثقافة و التراث
القسطل .. معركة القدس الحاسمة
توزعت قوات جيش «الجهاد المقدس» على مختلف مناطق فلسطين، وقامت قوات الحسيني بتنفيذ جزء كبير من واجباتها، فقد تمكنت من إجبار (115) ألف يهودي على الاستسلام في مدينة القدس نتيجة حصارهم باحتلال مضيق باب الواد وإقفاله، وشملت المعارك كافة القرى والمدن الفلسطينية، وكان أشهرها: معارك (جوليس، والنبي داود، وأبو شريتح، ومجد الكروم، والكابري، والبروة، وبيت سوريك، والماصيون، وميكور حاييم، وعرب البعيج، وطبرية، ولوبية، وشعب، والكويكات، والبروة، ومجدل الكروم، وصفورية، وعكا، وحيفا، وعزون، والطيرة، وطولكرم، ونابلس، وجنين، وسيلة الظهر،و حوارة، وبيت لحم، والخليل، وأريحا، وشعفاط، وحلحول، والدهيشة، وصوريف، ويافا، واللد، والرملة، ودير محيسن، والعباسية، ودير طريف، وسلمة، ووادي العرار، وغزة، وبير السبع، والفالوجة، وخان يونس، والمجدل، والمسمية، والسواتر، وبيت دراس والمنصورة)، وقد قابلت الحركة الصهيونية هذه المعارك بأعمال انتقامية، فأقدمت على تفجير ألغام وعبوات موقوتة في المناطق الآهلة بالسكان، عند ذلك دعا عبد القادر إلى مؤتمر صحفي في مقر قيادته، حضره مندوبو وكالات الأنباء، ومراسلو الصحف، وأعلن عبد القادر فيه أنه يتحدى القوات الصهيونية في ميادين القتال، وحذر من مغبة استمرار الحركة الصهيونية في العمليات الإرهابية، لكن ذلك لم يردع القوات الصهيونية عن الاستمرار في ارتكابها أبشع الجرائم الإنسانية والقتل والتخريب، مما اضطر عبد القادر للرد على هذه العمليات الإرهابية الصهيونية، بتشكيل قوى خاصة أوكل إليها مهمات النسف والتدمير، ضد المراكز الصهيونية، وقامت هذه الفرقة فعلاً بسلسلة واسعة من أعمال النسف، فنسفت مبنى الصحف الصهيونية في القدس، وفجرت شارع بن يهودا في القدس حيث أصيب أكثر من ألفي يهودي بين قتيل وجريح ، وشارع هاسوليل في القدس الجديدة مما أدى إلى قتل وجرح المئات، وحي منتنفيوري، ومبنى الوكالة اليهودية، كما نسفت قواعد صهيونية في حيفا، ويافا، ولقد أسهم ذلك في ردع الوكالة اليهودية عن التفكير بعمليات إرهابية جديدة.
كما خاضت هذه القوات بقيادة عبد القادر أروع ملاحم البطولة والفداء، وشهدت فلسطين في تلك الفترة، حالة من النهوض الثوري العارم، وتمكن الثوار في شهر آذار/ مارس سنة 1948م، من السيطرة على طرق مواصلات رئيسية في فلسطين، ومحاصرة مدينة القدس الجديدة، واحتلال قسم من تل أبيب، ومحاصرة عدة مستعمرات صهيونية، وقد وصف الكتاب السنوي لدولة (إسرائيل)، الصادر سنة 1949م، تلك الفترة بما يلي: «إن شهر آذار/مارس سنة 1948م، كان أحلك شهر عرفه اليهود، ورأوا فيه خطراً عظيماً يهدد بتدمير كل ما بنوه خلال ثلاثين عاماً»، بيد أن هذا الخطر سرعان ما عالجته الولايات المتحدة الأميركية، إذ طلبت في التاسع عشر من آذار/مارس سنة 1948م، عبر مندوبها في الأمم المتحدة، العدول عن قرار تقسيم فلسطين، ووضعها تحت وصاية الأمم المتحدة، ريثما تجد هذه الهيئة الحل المناسب لها، وسرعان ما لاقى هذا الاقتراح تأييد دول أوروبا الغربية، وفاز في اقتراع الأمم المتحدة، ولم يكن خافياً أن الهدف من ورائه هو إعطاء فرصة جديدة للحركة الصهيونية، لإعادة ترتيب أوضاعها مجدداً داخل فلسطين، وبالفعل، تمكنت الحركة الصهيونية من استيراد الأسلحة عن طريق ميناء تل-أبيب، وعن طريق الجسر الجوي الذي أقامته تشيكوسلوفاكيا آنذاك لنقل المتطوعين وشحنات السلاح إلى المنظمات الصهيونية في فلسطين، مما أخل مجدداً بميزان القوى العسكري داخل فلسطين لمصلحة الحركة الصهيونية.
وفي كتابه (النكبة) يذكر المؤرخ المقدسي عارف العارف أن عبد القادر أدرك ذلك في حينه، فذهب إلى دمشق - حيث القيادة العربية لمنطقة القدس- مطالباً اللجنة العسكرية العربية بالسلاح، إلا أن طلبه رفض، فقدم استقالته من قيادة قوات (الجهاد المقدس)، إلى الحاج محمد أمين الحسيني الذي رفض طلبه، وتدخل الزعيم اللبناني رياض الصلح والمسؤول المصري عبد الرحمن عزام - الأمين العام لجامعة الدول العربية وقتها - في الأمر، وأقنعا عبد القادر بسحب استقالته مقابل إمداد قواته بالسلاح عن طريق اللجنة العسكرية العربية، لكن هذه اللجنة لم تمده بشيء مما طلب، وقد ترافق ذلك مع تمكن القوات الصهيونية من احتلال «القسطل» فقرر عبد القادر العودة إلى فلسطين، وغادر دمشق في السادس من نيسان/ أبريل سنة 1948م، بعد أن أعرب عن رأيه في اللجنة العسكرية العربية، وهو أن التواطؤ العربي الرسمي مع الانتداب والصهيونية سيكون سبب نكبة فلسطين.
وتؤكد المصادر التاريخية أن عبد القادر «طالب أعضاء اللجنة العسكرية –آنذاك- بالسلاح والرجال، فرفضوا، فأراد السلاح فقط، فرفضوا، فأراد الذخيرة فقط فرفضوا ولم يرجع إلا ببضع بنادق وثمانمائة جنيه فلسطيني، هي كل ما استطاع الحاج أمين الحسيني بشخصه تدبيره له».
وتكشف الرسالة المقتضبة التي وجهها في السادس من نيسان/أبريل 1948م (أي قبل استشهاده بيومين)، إلى عبد الرحمن عزام مدى معرفته بالوضع الصعب على الأرض، ومدى إحساسه بخذلان القيادات العربية لشعب فلسطين رغم استبساله في المواجهة:
«إني أحملكم المسؤولية بعد أن تركتم جنودي
في أوج انتصاراتهم بدون عون أو سلاح».
وقد بعث عبد القادر بهذه الرسالة، لتبرئة ذمته أمام الأمة، إذ لم يكن يوماً من المراهنين على القيادات والأنظمة العربية التي كان يعرف حجم عجزها وارتباطها بالسياسة البريطانية المهيمنة على البلاد العربية حينذاك.
ومما لاشك فيه أن عبد القادر الحسيني ضرب خلال معركة «القسطل» غير المتكافئة مثلاً رائعاً في التضحية والحماسة والاندفاع، ذلك أنه رغم تخاذل الجيوش العربية، وفي ظل موازين قوى مختلة لمصلحة الحركة الصهيونية، فقد تكللت جميع المعارك التي خاضها الثوار ضد العدو الصهيوني والبريطاني بالنجاح، إلى أن كانت معركة «القسطل» التي دامت أربعة أيام بكاملها (4 - 8 نيسان/أبريل 1948م)، وتفاصيل المعركة تدور كما دوّنها المؤرّخون، أنه في يوم السابع من نسيان/أبريل عمد عبد القادر أولاً إلى إعادة ترتيب صفوف المجاهدين بدقّة ونظام وكان هو في موقع القيادة، وعلى الرغم من استبسال كلّ الجهات المقاومة في القتال إلا أنّ ضعف الذخيرة وقلّتها أدّت إلى وقوع الكثير من المجاهدين بين مصابٍ وشهيد، وهنا اندفع عبد القادر الحسيني لتنفيذ الموقف وقام باقتحام قرية «القسطل» مع عددٍ من المجاهدين إلا أنّه ما لبث أنْ وقع ومجاهدوه في طوق الصهاينة، وتحت وطأة نيرانهم، فهبّت نجدات كبيرة إلى «القسطل» لإنقاذ الحسيني ورفاقه وكان من بينها حراس الحرم القدسي الشريف، وتمكّن رشيد عريقات في ساعات الظهيرة من السيطرة على الموقف وأمرَ باقتحام القرية وبعد ثلاث ساعات تمكّنوا من الهجوم وطرد الصهاينة منها ومن ثمّ فر من تبقّى منهم بسيارات مصفحة إلى طريق يافا، غير أنّ المقاومين لم يكتفوا بذلك وأرادوا ملاحقة جموع الصهاينة الفارين غير أنّهم وجدوا في صبيحة يوم (8 نيسان/أبريل 1948م) جثمان الشهيد عبد القادر الحسيني ملقى على الأرض الأمر الذي كان له وقْعٌ أليم جداً على رفاقه وعلى الأمة جميعها إذْ زلزل النبأ قلوب كلّ من عرفوه وعايشوه..
وفي رواية تفصيلية يحدثنا شيخ المجاهدين الفلسطينيين المناضل بهجت أبو غربية – أمد الله في عمره – في مذكراته التي حملت عنوان (في خضم النضال)- ص210-عن الساعات الأخيرة من معركة «القسطل» قائلاَ : «.. أصبح عبد القادر في حكم المفقود أو المحاصر داخل القرية. فأصيب المقاتلون بالإحباط، فهم لا يستطيعون إعادة الكرّة في النهار والهجوم على القرية من جديد، وذخائرهم قليلة. وأخيراً قرّروا أنْ يرسلوا في طلب نجداتٍ من كلّ مكان لإنقاذ عبد القادر المحاصر داخل «القسطل». فتوجّهت الرسل على جناح السرعة إلى القدس ورام الله والخليل والرملة وجميع القرى القريبة، تستنهض همم المقاتلين. فسارعت النجدات في التوجّه إلى «القسطل». وأصبح مجموع المناضلين يزيد على خمسمائة رجل.
وفي صباح الخميس 8 نيسان/أبريل 1948م جاء من يستصرخني لنجدة القائد عبد القادر الحسينيّ (المحاصر في «القسطل») فهالني الأمر وتحرّكت بسرعة، فأصدرت إلى قواتي في المصرارة وسعد وسعيد أمراً باتّخاذ أعلى درجات الاستعداد وعدم مغادرة موقعهم تحت أيّ ظرف. كما أصدرت أمراً إلى قواتي في حيّ باب الساهرة بالتجمّع، وانتخبت منهم نحو 30 رجلاً من خيرة المقاتلين، وأعددت من السلاح رشاشيْن براوننغ وأربعة رشاشات برن لتحملها القوات المتحرّكة من مجموعة باب الساهرة ومجموعة المصرارة. وقبل أنْ نتحرّك حضر إليّ الدكتور مهدي الحسينيّ وزوجته وممرّض يعمل في عيادته، وثلاثتهم بالألبسة البيضاء يحملون أدوات الإسعاف وشارة الهلال الأحمر، وطلبوا منّي أنْ يرافقونا إلى «القسطل»، فأكبرت ذلك ووافقت بكلّ سرور.
ركبت وقواتي في المصفّحة اليهوديّة التي أخذتها من كامل عريقات وفي سيّارة شحنٍ كبيرة... وواصلنا السير إلى بيت سوريك القريبة جدّاً من قرية «القسطل». ولكنّ الطريق منها إلى «القسطل» وطولها كيلومتر ونصف كيلومتر تقريباً لا تصلح للسيّارات. ترجّلنا من السيّارات واجتمع من حولنا عددٌ من سكّان القرية، وما كانوا يعرفون أنّنا ننوي التقدّم إلى «القسطل» حتّى جاء رجلٌ يصيح ويستصرخ الرجال لنجدة قرية النبي صموئيل التي قال إنّ اليهود هاجموها بعد أنْ هاجموا قرية بيت أكسا.
وترجّلنا من السيّارات وبدأنا بالتقدّم إلى «القسطل» بالرغم من تحذير أهالي بيت سوريك لنا بشدّة خوفاً علينا من المواقع اليهوديّة المسيطرة على طريق تقدّمنا التي تحمي مؤخّرة اليهود في «القسطل»، فلم أعبأ بذلك. وتقدّمنا بانتظام معتمدين على كثافة نيراننا. ونجحت الخطّة، فقد كان قدومنا من شمال «القسطل» بهذه النيران الكثيفة مفاجئة للعدو، حيث مئات المناضلين في الوقت نفسه كانوا يهاجمون «القسطل» في الجنوب، ونحن من الشمال ونضرب مستعمرة «موتسا« ومستعمرة «الدلب«، ونقطع إمدادات اليهود من الشرق والغرب. فتملّكهم الرعب وتركوا مواقعهم في القمّة منسحبين إلى الغرب من خلال حرجٍ مكشوف لنيراننا، فأصليناهم ناراً حامية وسقط منهم العديد من القتلى، ودخلنا «القسطل» من الشمال الغربيّ، أي من ناحية الحرج، وشاهدنا أعداداً كبيرة من القتلى. وفي احد المواقع كانت هناك 11 جثّة متقاربة وجريح واحد أسرع الدكتور مهدي والممرّض لإسعافه، لكنّه لم يلبثْ أن فارق الحياة. ووصلنا إلى القمّة حيث التقينا المناضلين القادمين من الجنوب، والتقيت صديقي محمد عادل النجار ورجاله من مناضلي حيّ وادي الجوز، وتملّكتنا فرحة عارمة، فـ«القسطل» عادت لنا وخسائرنا قليلة وجثث الأعداء متناثرة هنا وهناك.
لكن فرحتنا لم تدمْ طويلاً، إذ جاء من يخبرنا أنّ عبد القادر وُجِد شهيداً في الجهة الجنوبيّة الشرقيّة من القرية أمام بيتٍ لا يبعد عن بيت المختار أكثر من 100 متر. ووقع عليّ الخبر وقْع الصاعقة، فجلست على الأرض حزيناً وطلبت من رجالي ألا يذهبوا ويشاهدوا جثّة قائدهم حرصاً على روحهم المعنويّة وأنْ يبقوا متجمّعين حولي. وبقيت في مكاني جالساً على الأرض وبجانبي محمد عادل النجار، وقد غمرني الحزن والأسى الشديدان وتراءت لي صورة المستقبل شديد الظلام. فخسارتنا مضاعفة بهذا البطل المغوار الذي أمضى حياته مجاهداً باسلاً مطارداً، وختم حياته مستشهداً ببطولةٍ وشهامة في سبيل الحفاظ على أرض الوطن المقدّس. خسارتنا في شخصه عظيمة، وخسارتنا في دوره النضاليّ القياديّ فادحة، فقد كان القطب الذي يلتقي عند قيادته مناضلو جيش الجهاد المقدّس ومناضلو فلسطين بشكلٍ عام. رحمك الله أيّها البطل، فخسارتنا فيك لا تعوّض، لقد بكينا فلسطين حين بكيناك في «القسطل». قلتها لي يوماً: (فليمرّوا على أجسادنا). وها أنت تفي بنذرك. فلم يمرّوا «القسطل» إلى على جسدك...».
وفي يوم الجمعة المصادف (9 نيسان/أبريل 1948م) شيعت فلسطين ابنها البار عبد القادر الحسيني بجنازة مهيبة أمّها الجميع صغاراً وكباراً مقاومين وأناساً آخرين عرفوه إنساناً وطنياً مخلصاً لدينه ووطنه.. وصلي عليه في المسجد الأقصى المبارك، وأطلقت المدافع في القدس تحية للبطل الشهيد، ودفن بجانب ضريح والده في باب الحديد... وسمي «بطل القسطل»، ونعاه المؤذنون على المآذن وقرعت أجراس المعابد حزنا عليه، وأقيمت صلاة الغائب في الجامع الأزهر وفي جوامع المدن العربية، وجعل خطباء صلاة الجمعة استشهاده الشريف موضوع خطبة الجمعة، وابنه النواب والعاملون في الحقل الوطني في المجالس النيابية في مصر وسورية ولبنان والعراق وفي جامعة الدول العربية.
وقد استشهد رحمه الله وهو في الأربعين من عمره، أي في أوج عطائه الجهادي.
وفي هذه الأثناء استغلت عصابات الكيان الصهيوني الإرهابية انشغال الجميع بتشييع عبد القادر الحسيني فارتكبت أبشع المجازر، وعمدت إلى مهاجمة قرية «دير ياسين» فلم يبقَ فيها شيءٌ ينبض بالحياة، بعد أن ذبح اليهود أطفالها ونسائها وشيوخها وشبابها، فقط ركام المنازل وأشلاء المدنيين الفلسطينيين العزل.
ويذكر أن الشهيد عبد القادر تزوج في عام 1935م من السيدة وجيهة الحسيني، ورزق منها بفتاة واحدة وثلاثة ذكور هم موسى وغازي وثالثهم القيادي الراحل فيصل الحسيني الذي ولد في القدس في 17 تموز/يوليو 1940م، وتوفي في الكويت في 31 أيار/مايو 2001م ؛ وحُمل جثمانه إلى مدينة القدس، وشيعه إلى مثواه الأخير أبناء القدس في جنازة مهيبة؛ حيث دُفن في باحة الحرم القدسي الشريف بجوار أبيه وجده. وكانت المرة الأولى التي يُدفن فيها فلسطيني في هذا المكان منذ احتلال الكيان الصهيوني لمدينة القدس عام 1967م.

نموذج من نثر القائد الشهيد عبد القادر الحسيني:
[[اكتب إليكَ من دمشق، ولا ادري كيف أصف شعوري وما يجول في نفسي، وما يخفق في فؤادي. وهذه فترة قصيرة أنا بعيد فيها عن مشاغل القتال، وما ذلك رغبة مني، ولكن الظروف هي التي أوجدتني في دمشق، بعيداً عن رائحة البارود وعبير الجنة وخوض المعارك إلى جانب إخواني الأبطال الذين يقومون بتحرير وطنهم. نصرهم الله وأيدهم بقوة من عنده.
لقد كانت الفترة الماضية مليئة بالانتصارات الباهرة والأعمال المجيدة التي بهرت العالم وحطمت العدو. لقد سطرنا صفحات مجد لا تنسى في التاريخ. ولكن هذا لم يأت عفواً ولا سهلاً، وإنما بالتضحيات العظيمة والجهود المتواصلة ليلاً ونهاراً، وهو عمل نسي كل منا نفسه وأهله وأولاده وطعامه ونومه وكل ما في الدنيا إلا الرغبة في النصر وسحق العدو الكبير في عدده والقوي في عتاده بما لدينا من السلاح القليل، ولقد قدَّرنا الله على ذلك وكافَّانا على جدّنا بالنصر المبين، لكننا ما زلنا في أول الطريق، وعلينا أن نضاعف الجهود ونصل الليل بالنهار حتى نصل إلى النصر النهائي، واني أبشرك من الآن أننا سنصل إليه إن شاء الله]].
[هذه الرسالة وجهها الشهيد عبد القادر الحسيني من دمشق بتاريخ 14 ربيع أول 1365م إلى سماحة الحاج أمين الحسيني رئيس الهيئة العربية العليا أبان وجوده في مصر].


0 التعليقات:

إرسال تعليق

فلسطيني وأفتخر

فلسطيني وأفتخر