صامد للأنباء -
فجأة, ومن غير تدبير مسبق, تهجم على ذاكرتي
المكتهلة, خمسون سنة أو تزيد, من صداقة فريدة, فقد ظهر الشاعر نزيه أبو عفش
في حياتي عام 1963, ولما كان كلانا من مواليد 1946, فقد سعد وحار كل من
ذينك الولدين بالآخر, وكنا خلال تلك الفترة الشاسعة, موضوعا للتندر بين
الأصحاب والمعارف الذين لم يكونوا يعرفون متى نكون على وفاق ومتى نختلف,
فقد ارتبط كل منا بالآخر وفق صداقة حميمة عامرة بالمناقرات والخصومات
المضحكة, وكان كل منا يعود الى الآخر بعد وجبة مشاجرات طفولية, فنتصالح في
سرعة قياسية ويقرأ كل منا على نظيره ما كتب خلال القطيعة, وحتى عندما كانت
فترة خصومتنا تطول, كان كل منا يتسلل الى أسرار الآخر بالاستفسار والفضول,
والى ذلك.. لم يكن بيننا شيء مما يسمى عداوة الكار, فقد كنا مشروعين
لشاعرين شابين يعترف كل منهما بموهبة الآخر – ولا بأس في أن يغار منه:
وكانت سورية الثائرة الفائرة تتسع لنزقنا البريء وتوتراتنا, ولشبابنا الذي
لم يكن قد نضجت اختياراته بعد..
كان
أخي الأكبر من نجوم الحزب السوري القومي, وكانت أسرة نزيه تنفرد في قريته
مرمريتا, بكونها أسرة شيوعية خلافا لمعظم الجيران الذين كانوا, على الأغلب
من القوميين.. وكان طبيعيا والأمر كذلك أن ينشأ نوع من الخلاف بين الشابين
اللذين كانا في بدء تهجئتهما للغة السياسية..
الا
أننا كلينا, نشأنا على الاختيارات التقدمية, شأن معظم ابناء جيلنا, ولكنها
اختيارات تتسع لهامش من الاختلافات العميقة والساذجة على حد سواء.. غير أن
نزيها كان يتميز بعصبية مفرطة فلا تعرف متى ينفجر ومتى يروق خاطره, فيما
لم أكن املك من الخصوصية الا العناد الكاريكاتوري على مبدأ: عنزة ولو
طارت..
ولكننا بعد كل شيء,
ورغم كل شيء – نجحنا في أن يظل احدنا بالنسبة الى الآخر, صديق العمر, حتى
يروى انه في احدى فترات غيابي عن حمص, حيث كنت في احد جيوب المقاومة, سرت
شائعة في بعض اوساط المدينة عن استشهادي, فجن أبو عمر – وهو لقب نزيه,
المسيحي الأرثوذكسي – وكاد يصاب بالجنون, وهرع الى المخيم حيث أهلي, فاطمأن
الى ان الشائعة لا أساس لها, ومنذ تلك الواقعة كان أبي – الشيخ البسيط –
يتعامل معي بحذر ويقول لأمي ان ابنك نصف نصراني!! اما امي فقد كان ذلك من
دواعي سرورها, اذ ان نشأتها في تركيا – وسط بيئة مسيحية, للمفارقة – قد
اوجدت لديها نوعا من التعاطف الجارف مع بعض اصدقاء ابنائها فأخي الأكبر كان
صديقا لواحد من أنبل الشباب, واسمه جان, أما أنا فقد كانت صداقتي الفريدة
لنزيه مضرب الأمثال, وقد احتفظنا بتلك الصداقة حتى يوم الناس هذا, بعد ان
اشتعل الرأس شيبا, مما زحزح ابي عن عناده فرأى ان هذا الجيل أدرى بمصالحه,
وان ظل يتحفظ من حماسة امي لأولئك الاصدقاء, ويرى في اصول تربيتها المسيحية
اثرا واضحا ينسحب على ولديها المتعلمين, والى ذلك فقد كان الشيخ خضر – اي
ابي – انموذجا للانسان المتسامح, وآمل الا يتهمني احد بزج الاسماء
التاريخية في هذا السياق اذ قلت ان تسامح ابي كان بتأثير الشيخ الشهيد عز
الدين القسام الذي كان جارنا في حيفا..
ولعلي اخصص جانبا من هذا الموضوع لاحدى الزوايا التي اكتبها – ان كان في العمر بقية..
وللأمانة
والتاريخ, فقد وقع اختيار المرحوم عبد الله الحوراني, رئيس دائرة الثقافة
الفلسطينية السابق, علي تحديدا لكتابة مسلسل عز الدين القسام, لما كان
يسمعه مني عن تلمذة أبي على يد الشيخ القائد الشهيد..
وهنا
لا بأس من الاستطراد, فأشير الى ان ابي لم يكن قساميا بالمعنى العسكري
للكلمة بل كان فتى يتيما تعهده الشيخ القسام في مطلع شبابه وحدب عليه
ورعاه, الا ان هذا موضوع آخر, آمل ان اجد الفرصة يوما ما للتوسع فيه..
اما
اخي الاكبر – مصطفى – فقد كان له من العمر بضعة عشر عاما ايام النكبة, اي
انه كان يذكر بعض العلامات الفلسطينية, وعندما وجد نفسه في اوساط الحزب
السوري القومي الاجتماعي, كان من أكثر المتحمسين لأفكار ذلك الحزب, حتى انه
اطلق على كبرى بناته اسم رغدة, وهو اسم البنت الأولى لأنطون سعادة - مؤسس
الحزب القومي, والطريف ان القوميين احتفظوا لسعادة بصفة الزعيم, ففي تربية
ذلك الحزب, يوجد رؤساء ولكن لا يوجد الا زعيم واحد, ولهم شعار فريد من نوعه
يطلقون عليه اسم الزوبعة, على افتراض ان حزبهم في رأيهم هو حزب النهضة
القومية, وان شعاره – الزوبعة- هو رمز للحركة المستمرة التي لا تهدأ, الا
ان الانصاف يقضي بالاشارة الى انهم كانوا, على الأغلب, مثقفين معنيين
بالشأن السياسي – الاجتماعي, ولكن مشكلتهم الكبرى هي عصبيتهم الحزبية حتى
لا يكادوا يرون في الفضاء العربي غير مشروعهم وشعاراتهم, ومع ذلك فان اخي
كان يحتفظ بهامش لقبول الآخر الا اذا كان شيوعيا, فقد كانت عداوته للشيوعية
تكاد تكون عضوية..
ولأن
التعصب نوع من العمى, فقد كان يرى في الشيوعيين العرب, جميعا بلا استثناء,
مجرد سفراء للعدو الصهيوني, ولهذا لم يكن يكف عن التذكير بأن كارل ماركس
كان يهوديا!!
ولم ينقذ أخي من جنون تعصبه القومي الا ظهور حركة فتح, فقد آمن بها ايمانا مطلقا يكاد يوازي العمى السياسي في مرحلته القومية!!
على
انه والحق يقال, عندما ضبطني اختلج بمشاعر تقدمية بعيدة عن تفكيره القومي,
لم يزعجني ولم يتدخل في شأني الخاص, وان كنت ألاحظ- بيني وبين نفسي –
حماسته لشعار "فتح العاصفة" التقليدي, كأنما كان ذلك الشعار يذكره بزوبعة
حزبه السابق ولكنها كانت مجرد ذكريات, وأخذته الحياة في مسيرتها الجارفة..
واذا كان لي من مأخذ عليه, رحمه الله, فهو تعصبه الأعمى لأفكاره وأفكار
محازبيه, من ذلك ان المطربة الخالدة فيروز كانت تشكل صدمة سماعية للذوق
السائد قبل ان يألفها الجمهور الكاسح, وذات يوم ظن أخي – لامر ما – ان
فيروز قومية!! فراح يبالغ في مديحها حتى انه اعتبرها من جميلات الدنيا,
وعبثا كان يقال له: يكفيها انها ذات صوت فريد ساحر. لكن هذا لم يكن يكفيه,
اذ ما دامت قومية, كما يظن, فهذا يرشحها للجمال المطلق صوتا ووجها وحضورا,
وليست فيروز وحدها صاحبة هذا الامتياز عند اخي, بل هو امتياز يشمل من يرضى
عنهم جميعا ولا سيما في مجال اوهامه الحزبية..
كان
يعجبني ذكاؤه, رحمه الله, وان كنت اضيق احيانا بتعصبه الحزبي الاعمى,
والطريف انه ظل مخلصا لتعصبه حتى بعد ان انتهت علاقته الحزبية فتلك هي
الدنيا..!!



0 التعليقات:
إرسال تعليق