صامد

صامد

الأربعاء، 3 يونيو 2015

هذا المكان الملتبس- احمد دحبور

صامد للأنباء -
لقد هجوت الكلام لكن بالكلام.. هكذا قال جبران خليل جبران قبل زهاء قرن من الزمان وكأنه كان يشكو عبثية هذا العالم ومحدوديته، فيما ظلت الحقائق نسبية ذات وجوه شتى. واذا كنا ? معشر بني البشر ? محكومين بظروف تشكل وعينا وردود افعالنا، فليس الحل في ان نهجو هذه الظروف أو نشكوها، بقدر ما هو كامن في البحث عن ظروف جديدة، نملك ان نرد عليها او ان نطوعها بما يجعل الحياة جديرة بأن تعاش. ولعل هذه البدهية هي التي جعلتنا نتحمل الحياة ونتدبر اقامتنا فيها.
وانا الذي لا احب الكلام الكبير ولا اجيده، لا اقصد ان اتحرش بالفلسفة او ادعيها، ولكنني احاول ما استطعت، ان اتعامل مع البسيط والعفوي، متأملا ما حولي وما امامي، حذرا من مفاجآت الحياة وتحدياتها الاليمة.
ومن مفاجآت هذه الحياة مثلا، انني فتحت عيني عليها فوجدتني منذ ان كنت ابن عامين باليوم، خارج الوطن الذي رأيت فيه النور لاول مرة، واذا كان عدوي في هذه المعادلة معروفا، فان مفردات الحياة قد اكدت لي انني لا ازال في اول السطر، فليست احاطتي بالمعادلة كافية وليست الحكمة الا في الاعتراف بأننا ما اوتينا من العلم الا اقل القليل.
خذ مثلا فاكهة الجوافا، فقد كان بيتنا في المخيم يتميز بصداقته لهذه الفاكهة التي لم تكن موجودة حيث كنت اعيش، وكانت عمتي تجلبها الينا في كل زيارة، فأتباهى على اترابي بما املك ولا املك الى ان اتى يوم عرفت فيه ان عددا لا يحصى من الفواكه موجود في هذه الدنيا، وانني لا اعرفها كلها بالضرورة، وان امامي الكثير مما يجب ان اعرف واكتشف..
اذن، ليس العالم حبة جوافا، بل انه مكان شاسع يغص بما اعرف وما لا اعرف وانني احتاج ? حسب كلام امي ? الى كثير من فتات الخبز حتى اختبر كل طعم ورائحة ولون وملمس، كأنني لم اتعظ من درس ابي نواس الخالد: علمت شيئا وغابت عنك اشياء!!..
وفي مرحلة المراهقة الثقافية، عندما كنا نترنم بالجمل الطنانة، اذكر اني قرأت شيئا لانشتاين، مفاده ان نسبة ما يعلم الى ما لا يعلم، تساوي نسبة حجمه الشخصي الى حجم بيته الكبير، وعلى ما يبدو في كلام انشتاين من تواضع، فقد قيل ان المعلقين اتهموا فيلسوف النسبية بتضخم الذات والمبالغة في تقدير ما يعلم، ويومها ذهبت بسذاجة طفولتي النسبية الى التراث، فقرأت بيت ابي نواس الخالد:
فقل لمن يدعي علما ومعرفة
علمت شيئا وغابت عنك اشياء
وما هي الا ان انتبهت الى حجم الاشياء التي لا اعلمها ولا اعرفها، حتى اكتشفت ان ما بقي لي ولغيري من العمر، لن يكفي للاحاطة بأسرار الوجود.. وربما كان هذا الاكتشاف هو ما اوقفني على شاطئ البحر في احد الايام، فصعقني ذلك الازرق الجبار ونبهني الى ان اينشتاين شخصيا كان مبالغا في تقدير حجم معرفته يوم قال ان نسبة ما يعلم وما يعرف الى ما لا يعلم وما لا يعرف، هي نسبة كبيرة جدا لا تتجاوز حجم حبة الجوز، وقيل يومها تعليقا على هذا الكلام: ان ايتشتاين قد اصابه الغرور حتى اعطى لنفسه تلك النسبة العملاقة من المعرفة!! وكان علي ان استحضر فورا تلك الآية الكريمة التي تقول: وما اوتيتم من العلم الا قليلا، او الآية التي تقول: وفوق كل ذي علم عليم..
بالطبع، لا يدعو هذا الكلام الى اليأس من المعرفة، بل هو محرض على مزيد من البحث عنها، حتى ليمكن تأويل الآية الكريمة: وقل اعملوا بتفسير مجازي مؤداه ان قل اعلموا.. وسأكدح طيلة ما بقي لي من العمر، لاصل في لحظة يأس سعيدة، الى انني اكاد لا اعلم شيئا..
على ان هذا التسليم الاليم، لا يعني ان اضع العلم في الجرة واغلقها، بل ان كل ما في هذا الوجود ينادينا ويسألنا مستفزا عما وصلنا اليه وما يجب ان نطلبه ولو كان في اقاصي الارض، ويحضرني لهذه المناسبة حديث شريف مشهور، يقول: اطلبوا العلم ولو في الصين.. ولأن الحديث يجر الحديث كما يقال، فقد حضرني للتو صوت ايليا ابي ماضي الذي كان ملك طفولتي ومرشدها، وهو الذي يقول:
لا اكتفي، واخاف اني اكتفي
فكأنما في الاكتفاء حمامي
ولعلي لا ابالغ اذا قلت ان هذا البيت هو الذي اوقعني في هوى مشاعر المهجر الاكبر، حتى ظل مشاعري الاثير الى يوم الناس هذا.
ومن المفارقات الطريفة، اني حملت هذا الرأي المتطرف ? ايام فجر شبابي ? الى استاذي الشاعر المرحوم موريس قبق، فزجرني برفق مؤكدا اني اتناقض مع نفسي، فمن جهة اقول انني لا اكتفي، ومن جهة "اكتفي" بايليا ابي ماضي متناسيا انه فوق كل ذي علم عليم..
وعمقت امي تلك الحكمة في وعيي الغض بقولها البسيط: ما دامت النساء يحبلن ويلدن فلا تقل ان هذغا جديد، بل اغمض عينيك وافتحمهما، لتتمكن من رؤية الجديد باستمرار..
وها انذا، لا زال افتح عيني فأرى ما يدهشني باستمرار، لان المشاهدة كالجمال تتجدد بقدر ما نعيشها وتترسخ فينا، لان المهم ? ولا يزال الكلام للوالدة ? ليس ما نرى وانما كيف نرى.. وهذا يعني اننا لا نتناقض مع انفسنا عندما نغير آراءنا في هذا العالم، بل اننا نراه بعيون جديدة ومن مواقع مختلفة.
هنا لا بد من استدراك ضروري وهو ان اكتشافنا الدائم للعالم المتجدد، لا يعني التناقض، بل هو الاحتفاظ بكنز معطى للانسان، وهو الدهشة وما لم يدهشنا العالم باستمرار فهذا يعني ان ثمة مشكلة في حاستنا السادسة، حاسة المعرفة..!
لقد وعدت، منذ البداية، بأن اتعامل مع العفوي والبسيط، وهل ثمة عفوية او بساطة مثل التسليم بلا نهائية الوجود الذي كثيرا ما نختصره في شيء لنتمكن من الاحاطة به، او كما قال الشاعر القروي منذ اواسط القرن الفائت:
من لنفس تود ان تحضن الكون
هياما بحسنه المعبود
مثلوا لي هذا الوجود بشيء
انا لا استطيع ضم الوجود
واذا كان لي في الختام ان استعير كلام امي، فانني ادعو وابتهل لاكون اكثر اقترابا ومعرفة بهذا اللغز الخالد، لغز وجودنا وسيرورتنا في هذا المكان الغامض الذي اسمه: العالم..

0 التعليقات:

إرسال تعليق

فلسطيني وأفتخر

فلسطيني وأفتخر