صامد للأنباء\
اعتاد الناس امتداح كِتاب ما، بالقول إنّهم لم يستطيعوا تركه قبل الانتهاء منه، لشدّة جاذبيته.
وقد قيل هذا تكراراً يوم حفل إطلاق كتاب "على ضفاف النهر"، لكاتبه محمد محمود يوسف (أبو علاء منصور)، قبل أسابيع، بحضور جمهور يضمّ جمعا من الفدائيين القُدامى.
أمّا أنا، فقد استعصت عليّ قراءته سريعا، وقررت أخذه على مهل، لأتذوّق معلومات وخواطر الكتاب متأملا.
جاء "مدللة" المخاض بعد منتصف ليلة في أيلول (سبتمبر) 1949، في البريّة، شرق قرية بلعين.
مكوّنات المشهد ثلاثة: الولادة ليلاً؛ فحمَدَت الأم الله لأنّ "العتمة رداء". والمكان؛ تحت شجرة زيتون روميّة وارفة، نقشَ الزمان على جذعها. وثالثاً، حدث ذلك أثناء الحرب وهَرَبِ الأهالي للجبال.
ينقّب أبو علاء في مكنونات النّفس، وكيف صار وغيره فدائيّين. ويصف مضافة القرية وحديث الرّجال في سهرات الصيف عن الحب والشجاعة والمشاجرات والسياسة؛ وصباحات الصيف النديّة، والنساء والفتيات يحملن على رؤوسهن سلال التين والعنب، "يتقاطرن بدلال يعكس غريزة الأنثى أكثر مما يعبر عن راحة البال"، يتقدم بعضهن "صوب الرجال تعلو ثغورهن الابتسامات، ويمد هؤلاء أياديهم لتناول الثمار ويكيلون الشكر". وفي تلك الجلسات، كان خميس البرية، مربي النحل، اللاجئ في القرية منذ العام 1948، من ماضٍ مترف، يثير حيرة الطفل محمد، ببريق عينيه، عندما يتحدث عن قريته. كان يرى الحب واللهفة والشوق في قسماته لحظتها، فيتألم لحاله.
ويأتي يوم يرى نعشه محمولاً؛ فقد مات مستقلاً الحافلة، عائداً إلى بلعين. والناس تحتار؛ كان بكامل عافيته، ولأول مرة يسمع الطفل بالسّكتة القلبية، ويقول رجل "مات خميس مقهوراً"... "لم يمهل الموت المسكين حتى العودة إلى قريته".
في كتاب أبو علاء مكان كبير للماء. أصّرت أمّه الفقيرة أن يتعلم ويصبح ناجحاً، فاجتازت الصعوبات حتى ذهب إلى العراق ودرس الرياضيات.
ويصفها بقوله: "تشبه الماء، تُواصِل العمل دون كلل، ومن غير أن تفقد البوصلة". اشتقّ التشبيه من وصيتها له: "كن كالماء قويّاً في إصرارك"، وقولها: "كن عذباً ساحراً في علاقاتك، وواصل البحث والعمل وإلا فَسَدت". قالت له: "يفسد الماء عندما يتوقف عن الجريان"، والماء إذا واجهته العوائق التف عنها ومضى.
عبرَ ماء النّهر ولم يجرفه. وعندما شكّل خليةً فدائية، وهو الأستاذ في مدرسة بنات رام الله، ومعه شقيقه وعضوان آخران، وقاموا نهاية العام 1973 بقتل جنود وخطف سلاحهم في قلب رام الله، وانكشفت خليته بعد أشهر، هرب بعد تعب، عبر نهر الأردن؛ مشى في مياهه، ووصل إربد، وعاش في عّمان سنوات، وأصبح مسوؤلا في لجنة الـ77، المسؤولة عن الكثير من العمليات والنشاطات داخل فلسطين.
يُناجي أمّه، متخيّلا عتبها لأنّه لم يصبح فدائيّاً وحسب، بل وأخذ شقيقه معه، فحُكم الأخير الذي أوصته به قبل موتها، بالمؤبد. خاطب روحها قائلا: "ألا تذكرين عندما سألتك وأنا صبي عن سبب تركك الدّلو على خرزة البئر ليلا؟"، يومها أجبتني بتلقائية: "قد يمر فدائي أرهقه الظمأ أو عابر سبيل. كيف لي أن لا أفهم رسالتك وأنا ابنك! أليس فيما قلتِه دعوة مضمرة أن أقتدي بالفدائيّ؟ الآن أصارحك أنني كنت فدائيّا، جندتُ أخي جمال وأنتِ على قيد الحياة. "لا مناص من دفع الثمن"، هذا ما كنت ترددينه علينا".
يُقدّم أبو علاء قدراً يسيرا يغريني بطلب المزيد عن عمّان التي يُحبها كثيراً كما يخبرني دائماً.
اكتشفتُ أنّه كان فدائيا ومناضلا يسكن قرب مكان سكني أنا، ويعمل في مخابز كان أهلي يرسلونني لشراء الخبز منها؛ مخبز جبل عمّان، قرب الحاووز.
وقد عمل أستاذاً في المدرسة الأرثوذكسية، وممن درّسهم الصَديقة الكاتبة لميس أندوني. ويقدم صُوَرا من اعتقاله في سجن المحطة.
يُخبرنا أبو علاء قصص خلايا فدائية تَكوَّنت بمبادرة وجهود وتمويل ذاتي، وقامت بعمليات ناجحة قبل التحاقها بالثورة المنظمة. ويقدّم نقداً ذاتيّاً، ويشير إلى أخطاء ارتُكبت.
ولعله يخاطب روح أمّه، وهو يتابع الكتابة الآن عن تجربة الثورة وعدم وصولها المصبّ الصحيح، رغم كل ما حملته وأنبتته: يجب شق قنوات يا أمي للمياه لتصل إلى حيث نريد، فأحياناً توصلنا المياه إلى مكان لا نريده.
اعتاد الناس امتداح كِتاب ما، بالقول إنّهم لم يستطيعوا تركه قبل الانتهاء منه، لشدّة جاذبيته.
وقد قيل هذا تكراراً يوم حفل إطلاق كتاب "على ضفاف النهر"، لكاتبه محمد محمود يوسف (أبو علاء منصور)، قبل أسابيع، بحضور جمهور يضمّ جمعا من الفدائيين القُدامى.
أمّا أنا، فقد استعصت عليّ قراءته سريعا، وقررت أخذه على مهل، لأتذوّق معلومات وخواطر الكتاب متأملا.
جاء "مدللة" المخاض بعد منتصف ليلة في أيلول (سبتمبر) 1949، في البريّة، شرق قرية بلعين.
مكوّنات المشهد ثلاثة: الولادة ليلاً؛ فحمَدَت الأم الله لأنّ "العتمة رداء". والمكان؛ تحت شجرة زيتون روميّة وارفة، نقشَ الزمان على جذعها. وثالثاً، حدث ذلك أثناء الحرب وهَرَبِ الأهالي للجبال.
ينقّب أبو علاء في مكنونات النّفس، وكيف صار وغيره فدائيّين. ويصف مضافة القرية وحديث الرّجال في سهرات الصيف عن الحب والشجاعة والمشاجرات والسياسة؛ وصباحات الصيف النديّة، والنساء والفتيات يحملن على رؤوسهن سلال التين والعنب، "يتقاطرن بدلال يعكس غريزة الأنثى أكثر مما يعبر عن راحة البال"، يتقدم بعضهن "صوب الرجال تعلو ثغورهن الابتسامات، ويمد هؤلاء أياديهم لتناول الثمار ويكيلون الشكر". وفي تلك الجلسات، كان خميس البرية، مربي النحل، اللاجئ في القرية منذ العام 1948، من ماضٍ مترف، يثير حيرة الطفل محمد، ببريق عينيه، عندما يتحدث عن قريته. كان يرى الحب واللهفة والشوق في قسماته لحظتها، فيتألم لحاله.
ويأتي يوم يرى نعشه محمولاً؛ فقد مات مستقلاً الحافلة، عائداً إلى بلعين. والناس تحتار؛ كان بكامل عافيته، ولأول مرة يسمع الطفل بالسّكتة القلبية، ويقول رجل "مات خميس مقهوراً"... "لم يمهل الموت المسكين حتى العودة إلى قريته".
في كتاب أبو علاء مكان كبير للماء. أصّرت أمّه الفقيرة أن يتعلم ويصبح ناجحاً، فاجتازت الصعوبات حتى ذهب إلى العراق ودرس الرياضيات.
ويصفها بقوله: "تشبه الماء، تُواصِل العمل دون كلل، ومن غير أن تفقد البوصلة". اشتقّ التشبيه من وصيتها له: "كن كالماء قويّاً في إصرارك"، وقولها: "كن عذباً ساحراً في علاقاتك، وواصل البحث والعمل وإلا فَسَدت". قالت له: "يفسد الماء عندما يتوقف عن الجريان"، والماء إذا واجهته العوائق التف عنها ومضى.
عبرَ ماء النّهر ولم يجرفه. وعندما شكّل خليةً فدائية، وهو الأستاذ في مدرسة بنات رام الله، ومعه شقيقه وعضوان آخران، وقاموا نهاية العام 1973 بقتل جنود وخطف سلاحهم في قلب رام الله، وانكشفت خليته بعد أشهر، هرب بعد تعب، عبر نهر الأردن؛ مشى في مياهه، ووصل إربد، وعاش في عّمان سنوات، وأصبح مسوؤلا في لجنة الـ77، المسؤولة عن الكثير من العمليات والنشاطات داخل فلسطين.
يُناجي أمّه، متخيّلا عتبها لأنّه لم يصبح فدائيّاً وحسب، بل وأخذ شقيقه معه، فحُكم الأخير الذي أوصته به قبل موتها، بالمؤبد. خاطب روحها قائلا: "ألا تذكرين عندما سألتك وأنا صبي عن سبب تركك الدّلو على خرزة البئر ليلا؟"، يومها أجبتني بتلقائية: "قد يمر فدائي أرهقه الظمأ أو عابر سبيل. كيف لي أن لا أفهم رسالتك وأنا ابنك! أليس فيما قلتِه دعوة مضمرة أن أقتدي بالفدائيّ؟ الآن أصارحك أنني كنت فدائيّا، جندتُ أخي جمال وأنتِ على قيد الحياة. "لا مناص من دفع الثمن"، هذا ما كنت ترددينه علينا".
يُقدّم أبو علاء قدراً يسيرا يغريني بطلب المزيد عن عمّان التي يُحبها كثيراً كما يخبرني دائماً.
اكتشفتُ أنّه كان فدائيا ومناضلا يسكن قرب مكان سكني أنا، ويعمل في مخابز كان أهلي يرسلونني لشراء الخبز منها؛ مخبز جبل عمّان، قرب الحاووز.
وقد عمل أستاذاً في المدرسة الأرثوذكسية، وممن درّسهم الصَديقة الكاتبة لميس أندوني. ويقدم صُوَرا من اعتقاله في سجن المحطة.
يُخبرنا أبو علاء قصص خلايا فدائية تَكوَّنت بمبادرة وجهود وتمويل ذاتي، وقامت بعمليات ناجحة قبل التحاقها بالثورة المنظمة. ويقدّم نقداً ذاتيّاً، ويشير إلى أخطاء ارتُكبت.
ولعله يخاطب روح أمّه، وهو يتابع الكتابة الآن عن تجربة الثورة وعدم وصولها المصبّ الصحيح، رغم كل ما حملته وأنبتته: يجب شق قنوات يا أمي للمياه لتصل إلى حيث نريد، فأحياناً توصلنا المياه إلى مكان لا نريده.
0 التعليقات:
إرسال تعليق